الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الدعاة العاملين، وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وبعد:
فتأمل معي- حبيبَ القلب- في فعلِ ذلك الداعيةِ الهُمَامِ المذكور في قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 20- 21] تأمل كم كانت شديدةً حرارةُ دعوتِه، وحرقةُ نبرتِه، وصلابةُ إرادتِه، ونورُ بصيرتِه، واقرأ لسيد قطب تأمُّلَه الدقيقَ الرقيق وهو ينبهكَ أن المقدامَ هذا: (حينما استشعرَ قلبُه حقيقةَ الإيمانِ تحركت هذه الحقيقةُ في ضميرِه فلم يطق عليها سُكوتا، ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلالَ من حوله والجحودَ والفجور، ولكنه سعى بالحقِّ الذي استقرَّ في ضميرهِ وتحرَّك في شعوره. سعى به إلى قومِه وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويهددون.. وظاهرٌ أن الرجلَ لم يكن ذا جاهٍ ولا سلطان، ولم يكن في عزوَةٍ من قومِه أو منعةٍ من عشيرته، ولكنها العقيدةُ الحيةُ في ضميره تدفعُه وتجيءُ به من أقصى المدينةِ إلى أقصاها).
نعم أيها القارئُ اللبيب، إن الناظرَ في أحوالِ الدعاةِ العاملين وما يلاقونه من أذى، ويتجشمونه من صعاب، وهم مع ذلك كلِّه لا تغريهم فتنة، ولا تثنيهم محنة، إن الناظر في هذا ليدركُ أن هناك بصائرَ ساطعة، وهممًا عالية، وقلوبًا رقيقةً متوقدة.. أفلا يكون هؤلاء خيرَ أمة أُخرجت للناس؟!..
وعلى هذا كان إمامُ الدعاةِ وقدوةُ الهداةِ عليه الصلاة والسلام، يدعو قومَه ليلًا ونهارا، سرًّا وجِهارا، في نواديهم ومجتمعاتهم، وهم يَصدُّون ويُؤذون، أحدُهم يشتُمه، وآخر يخنقه، وعمُّه يُهدده ويتوعده، وعِليةُ القومِ يشيعون عليه الفِرى، ولا ناصرَ له في الورى.. ومعلومٌ أنه- عليه الصلاةُ والسلام- نشأَ في أرفعِ بيوتِ العربِ عزةً ومهابةً ومكانة، وقد رأوه أعظمَهم خلقًا ووقارًا وأمانة، ومن كان هذا شأنه يصعبُ عليه إيذاؤه، ويشقُّ عليه مضيُّه في الدرب وإقدامُه، لكنه مع ذلك كلِّه كان ثابتَ القلب راسخَ اليقين، يُعلِّمُ أحبابَه وأتباعَه فقهَ الصبرِ وسننَ الثبات.. إنها حرارةُ الداعية..
إن الداعيةَ الربانيَ لا يعبأُ بنتائجِ دعوتِه، فلا يغُّره نجاحٌ بل يشجِّعُه، ولا يثنيه إرجافٌ بل يثبِّتُه، وليس له ارتقابُ النتائج، وإنما عليه نثرُ بزر الدعوةِ لا غير، وأما حصادُها وجنيُ ثمرتها فأمرٌ موكولٌ إلى الله وحده.
عجبت لهم قالوا: تماديت في المنى *** وفي المثل العليا وفي المرتقى الصعب
فاقصر ولا تُجهِد يَراعَك إنما *** ستبذرُ حبًّا في ثرى ليس بالخصب
فقلت لهم مهلًا ما اليأسُ شيمتي *** سأبذرُ حَبِّي والثمارُ من الرب
إذا أنا أبلغتُ الرسالةَ جاهدًا *** ولم أجد السمعَ المجيبَ فما ذنبي؟؟
فاصدع أيها الحبيبُ بالدعوة الربانية عالمًا بالحقِ رحيمًا بالخلق، فإن أهلَ السنةِ كما قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: (هم نقاوةُ المسلمين، وخيرُ الناسِ للناس، وهم أعلمُ الناسِ بالحقِّ وأرحمُهم بالخلق).
اصدع- حبيب القلب- بذلك لتكونَ في الركبِ السني النبوي، فإن من علِمَ عظيمَ الأجر هانت عليه مَشاقُّ التكاليف، ومن رامَ المعاليَ ذلَّلَ الصعاب.. والحمد لله رب العالمين.
الكاتب: محمد العيساوي.
المصدر: موقع كتاب عبد الله بن مسعود.